صيد الفوائد



بحث عن:

مزامير ال داوود

قراء بريدة

الاثنين، 20 يونيو 2011

هل الكسوف والخسوف غضبٌ أو تخويفٌ أو ظاهرةٌ طبيعية ؟

هل الكسوف والخسوف غضبٌ أو تخويفٌ أو ظاهرةٌ طبيعية ؟

د. محمد بن خالد الفاضل

كثر الحديث عن هذا الموضوع في هذه الأيام , ونحن حديثو عهد بخسوف القمر في منتصف محرم , واستاء الناس كثيراً من تصريح لأحد الفلكيين السعوديين في إحدى الصحف المحلية عندما قال : ( وكان الناس في الماضي يعتقدون أشياء لا أساس لها من الصحة , فكانوا ينسبون هذه الظواهر لغضب الرب , إلا أن الأبحاث العلمية في العصر الحديث بينت أن الخسوف يحدث عندما تقع الشمس والأرض والقمر جميعها على امتدادٍ واحد ... ) ولست أسيء الظن بهذا الفلكي , وإنما أراه اجتهد اجتهاداً مبنياً على الجهل بالجانب الشرعي لهذه القضية المحكومة بعدد من الأحاديث النبوية التي بلغت أعلى درجات الصحة والقبول فهي في صحيح البخاري و صحيح مسلم أو فيهما معاً , فلا يحسن بمسلم مهما بلغ من منزلة في علم الفلك أو غيره من العلوم أن يتجاهل مثل هذه الأحاديث حتى ولو لم يكن يعرف كنهها والمراد منها , ويكفيه أنها صادرة عن الرسول – صلى الله عليه وسلم - , الذي زكاه ربه بقوله : {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4،3] , وأوجب علينا إتباعه والأخذ عنه بقوله تعالى : {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] أليس الرسول – صلى الله عليه وسلم – هو الذي فصّل لنا أحكام الصلاة والزكاة والصيام والحج وغيرها , من حيث العدد والوقت والكيفية والهيئة وغير ذلك ؟ فكيف نستسلم لهذه الأحكام طائعين مختارين في حياتنا اليومية دون سؤال أو اعتراض أو افتيات , ثم بعد ذلك نفتات عليه ونتجاوز في أحكام الكسوف والخسوف , وقد نُقل عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه لما كسفت الشمس فزع فزعاً شديداً , قال أبو موسى – رضي الله عنه - : ( خسفت الشمس فقام النبي فزعاً يخشى أن تكون الساعة فأتى المسجد فصلى بأطول قيامٍ وركوعٍ وسجودٍ رأيته قط يفعله , وقال : هذه الآيات التي يرسل الله لا تكون لموت أحدٍ ولا لحياته ولكن يخوف الله بها عباده , فإذا رأيتم شيئاً من ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره ) رواه البخاري ومسلم .
وقد بلغ من فزعه – وهو أعلم الناس بربه – أنه أخطأ فلبس رداء بعض نسائه , كما قالت أسماء – رضي الله عنها - : ( فأخطأ بدرع حتى أُدرِك بردائه بعد ذلك ) رواه مسلم . ومن مظاهر فزعه – عليه الصلاة والسلام - , إطالته الصلاة طولاً غير معهود , مع أنه يأمر بالتخفيف , قال جابر – رضي الله عنه - : ( فأطال القيام حتى جعلوا يخرّون ) رواه مسلم . وأكدت ذلك أسماء – رضي الله عنها – بقولها : ( فأطال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - , القيام جداً حتى تجلاني الغَشْي , فأخذت قربة من ماء إلى جنبي فجعلت أصب على رأسي أو على وجهي من الماء ) رواه البخاري ومسلم . وفي الموضوع أحاديث صحيحة أخرى رواها البخاري ومسلم عن عائشة – رضي الله عنها - , وعن أبي بكرة , وعن أسماء وفيها أمر بالصلاة والذكر والاستغفار والصدقة والتعوذ من عذاب القبر , بل والعتق , فقد روى البخاري عن أسماء – رضي الله عنها – قولها : ( لقد أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – بالعتاقة في كسوف الشمس ) .

فأي كتاب عندنا بعد كتاب الله أصح من صحيح البخاري ومسلم , فهل نصدق قول الرسول وعمله الذي نقل إلينا من نسائه وصحابته نقلاً صحيحاً بحركاته وسكناته , أو نصدق صاحبنا الفلكي الذي علم شيئاً قليلاً فجزم به وتجاهل أموراً أخرى مهمة في الموضوع لا يحسن بمثله تجاهلها , خصوصاً وأنه قد وقع في مثل هذه الهفوة في منتصف صفر من العام الماضي , ورد عليه الشيخ العلامة د. صالح الفوزان وأبان له الصواب في ذلك , نسأل الله لنا وله الهداية وسائر المسلمين .

وهذه القضية – لمن بحث عن الحق – ليست من القضايا المبهمة أو الشائكة أو المغمورة , خصوصاً في ظل ثورة المعلومات عبر شبكة الإنترنت العالمية , ومن نعم الله علينا أن علم علمائنا الراسخين الأحياء منهم والأموات قد قيّض الله له من يخدمه ويقربه لطالبيه عبر مواقع أنشئت لهذا الغرض , ولا يكلفك استفتاء علاّمتنا الكبير سماحة الشيخ ابن باز , أو سماحة تلميذه العلامة ابن عثيمين أو غيرهما إلا لمسة زر تدخلك إلى موقعه الجميل المرتّب المبوّب , وفي هذا الموضوع يقول الشيخ ابن باز – رحمه الله - : ( وما يقع من خسوف أو كسوف في الشمس والقمر ونحو ذلك مما يبتلي الله به عباده هو تخويف منه سبحانه وتعالى وتحذير لعباده من التمادي في الطغيان , وحثٌ لهم على الرجوع والإنابة إليه ... ) ويقول : ( وكونها آية تعرف بالحساب لا يمنع كونها تخويفاً من الله جلّ وعلا وأنها تحذير منه سبحانه فإنه هو الذي أجرى الآيات , وهو الذي رتب أسبابها ... ) , وسئل الشيخ ابن عثيمين عن اثنين تنازعا في الكسوف : أهو غضب من الله , أم تخويف منه , فقال سماحته: ( المصيب من قال إنه تخويف ; لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – صرح بذلك , فقال : يخوف الله بهما عباده , لكن قد يكون هذا التخويف لعقوبة انعقدت أسبابها , ولهذا أمر الناس بالفزع إلى الصلاة والدعاء والاستغفار والصدقة والتكبير .. ) .

 
وقد أُشبع هذا الموضوع بحثاً في مواقع الإنترنت، وقد استفدت كثيرًا من خطبة الشيخ إبراهيم الحقيل، ومن موضوع لـ (فتى الظل) موجودين في عدد من المواقع، وإني لأعجب كيف تخفى هذه القضية على حبيبنا الفلكي، وأهل الفلك أكثر الناس علماً بعظمة هذا الكون ومجراته وكواكبه ونجومه، والطبيعي أن يكونوا أكثر الناس رهبة وخوفاً من أي تغيير يحصل فيه صغيراً كان أم كبيراً، وكأن الله سبحانه وتعالى – وله المثل الأعلى – يقول لنا: هذه الكواكب تسير أمامكم ليلاً ونهاراً بإتقان بديع، وقد تخرج عن مسارها سويعات، فأيّ قوة في الأرض تستطيع أن تخرجها ؟ وأيّ قوة تستطيع أن تعيدها إذا خرجت ؟، ولعل هذا هو معنى قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص: 73،71].


بلى والله
سنشكرك يا ربنا ونحمدك ونثني عليك بما أنت أهله, ولا يسعنا إلا ما وسع رسولك وحبيبك – صلى الله عليه وسلم – الذي شرفته بقولك: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء : 113]، وصدق الله العظيم في قوله الكريم: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر : 28].

نسأل الله أن يزيدنا منه خشية ورهبة، وفيه رجاءً ورغبة.

 
د. محمد بن خالد الفاضل
أستاذ اللغة العربية
جامعة الأمير سلطان
dr.alfadhel@gmail.com





جدوى صلاة الكسوف والخسوف في هذا العصر
بقلم إبراهيم السكران

الحمدلله وبعد،،
قرأت عدة مرات في الصحف، وسمعت في عدد من مجالس بعض المنتسبين للثقافة من يطرح تساؤلاً حول (جدوى صلاة الكسوف في هذا العصر) خلاصة هذا الإشكال: (أن ظاهرة الكسوف لم تعد ظاهرة مفاجئة، بل هي ظاهرة علمية يمكن التنبؤ بها مسبقاً، فلذلك لا يمكن أن يقال أنها تخويف، وبالتالي فلا جدوى من صلاة الكسوف في هذا العصر).
حسناً .. جوهر القضية هاهنا يقودنا للبحث عن (أساس تشريع صلاة الكسوف؟ )

فهؤلاء الإخوة الذين يقولون أننا اليوم صرنا نعرف وقت الكسوف فلا معنى للصلاة وقعوا في خطأين بشكل مركب. أولهما خطأ فقهي وهو (أساس تشريع صلاة الكسوف) والثاني خطأ فلكي وهو (تاريخ المعرفة العلمية بمواعيد الكسوف).

فهم يتصورون أن معرفة مواعيد الكسوف إنما وقع في هذا العصر! ولذلك تراهم يقولون (نحن اليوم صرنا نعرف مواعيد الكسوف!) والواقع أن معرفة مواعيد الكسوف علم فلكي قديم معروف قبل أن يشرع الله جل وعلا صلاة الكسوف أصلاً، وقبل نبوة محمد، بمعنى أن الله شرع صلاة الكسوف وبني آدم يمكنهم معرفة مواعيده بشكل علمي حسابي.

ومن أقدم الرصد لتطبيقات هذا العلم ماذكره المؤرخ الشهير "هيرودوت" (ت425 ق.م) المسمى (ابو التاريخ) حيث ذكرأن طاليس تنبأ بزمن الكسوف في أحد الحروب، ثم تم صياغة هذه التراكمات بطريقة علمية في كتاب بطليموس في علم الفلك عام (150م) وهو كتاب مشهور جداً ولايزال موجوداً، وأهم البحوث التي رصدت تاريخ التنبؤ بمواعيد الكسوف وكيف تطور علمياً هو كتاب تاريخي طريف للمؤلف ستيل اسمه (الرصد والتنبؤ بمواعيد الكسوف بواسطة قدامى الفلكيين)، وتشير أمثال هذه الدراسات إلى علم التنبؤ بمواعيد الكسوف في الحضارة الصينية و البابلية وغيرها.

ثم في عصر المأمون قام حنين بن إسحاق المعروف بترجمة كتاب (بطليموس) في علم الفلك وسماه العرب (المجسطي)، ثم انتشر هذا الموضوع بين الفقهاء وصاروا يتحدثون عنه في كتبهم، وعن تفاصيل معرفة مواعيد الكسوف، وممن شرحه الفقيه المالكي ابن رشد الجد في البيان والتحصيل، وابن حزم في رسالته الطريفة مراتب العلوم، والقرافي في الذخيرة، والذهبي في تاريخ الاسلام، والرازي، وأما المعاصرين فكثير كابن عاشور والألوسي وغيرهم.

فقد وضح شيخ المالكية ابن رشد الجد صحة معرفة مواعيد الكسوف بالحساب الفلكي ثم قال (ليس في معرفة وقت الكسوف بما ذكرناه من جهة النجوم وطريق الحساب؛ إدعاء علم غيب، ولا ضلالة وكفر، على وجه من الوجوه) [ابن رشد الجد، البيان والتحصيل.]

وتحدث العالم المثقف ابن حزم عن الكتب الفلكية التي يمكن من خلالها معرفة مواعيد الكسوف فقال (وبمطالعته كتاب المجسطي يعرف الكسوفات) [ابن حزم، رسالة مراتب العلوم].

وممن قرر مبدأ الإمكانية البشرية لمعرفة مواعيد الكسوف والخسوف ابو العباس ابن تيمية حيث يقول (يمكن المعرفة بما مضى من الكسوف وما يستقبل، كما يمكن المعرفة بما مضى من الأهلة وما يستقبل؛ إذ كل ذلك بحساب، كما قال تعالى "الشمس والقمر بحسبان" )[ابن تيمية، الفتاوى، 35/175]

وسئل ابن تيمية مرة عن هذه المسألة صراحة، فكان هذا صورة السؤال ومطلع جوابه:
(مسألة: في قول أهل التقاويم في "أن الرابع عشر من هذا الشهر يخسف القمر، وفي التاسع والعشرين تكسف الشمس" فهل يصدقون في ذلك؟ الجواب: الحمد لله الخسوف والكسوف لهما أوقات مقدرة كما لطلوع الهلال وقت مقدر، وأما العلم بالعادة في الكسوف والخسوف، فإنما يعرفه من يعرف حساب جريانهما وليس خبر الحاسب بذلك من باب علم الغيب، ولا من باب ما يخبر به من الأحكام التي يكون كذبه فيها أعظم من صدقه ) [ابن تيمية، الفتاوى، 24/256].

ونبّه الإمام ابن تيمية إلى أن من قرائن صحة معرفة مواعيد الكسوف والخسوف أن الفلكيين تتفق كلمتهم عليه، حيث يقول:
(إذا تواطأ خبر أهل الحساب على ذلك فلا يكادون يخطئون، ومع هذا فلا يترتب على خبرهم علم شرعي، فإن صلاة الكسوف والخسوف لا تصلى إلا إذا شاهدنا ذلك)[ابن تيمية، الفتاوى، 24/258].

ومن المسائل التي يثيرها البعض هو أنه هل يسوغ للإنسان أن يستعد للصلاة بناءً على خبر الفلكيين؟ وقد أجاب ابن تيمية على ذلك وشرح الأساس الفقهي له، فقال:
(إذا جوز الإنسان صدق المخبر بذلك، أو غلب على ظنه، فنوى أن يصلي الكسوف والخسوف عند ذلك، واستعد ذلك الوقت لرؤية ذلك؛ كان هذا حثاً من باب المسارعة إلى طاعة الله تعالى وعبادته)[ابن تيمية، الفتاوى، 24/258]

وأشار ابن تيمية رحمه الله إلى نفس الإشكالية التي يثيرها البعض اليوم، وهو كيف يمكن أن يكون الخسوف تخويفاً وهو معروف مسبقاً؟ حيث يقول ابن تيمية:
(فإذا كان الكسوف له أجل مسمى لم يناف ذلك أن يكون عند أجله يجعله الله سببا لما يقضيه من عذاب غيره لمن يعذب الله في ذلك الوقت، كما أن تعذيب الله لمن عذبه بالريح الشديدة الباردة، كقوم عاد، كانت في الوقت المناسب، وهو آخر الشتاء، كما قد ذكر ذلك أهل التفسير وقصاص الأنبياء) [ابن تيمية، الفتاوى، 35/175]

ولابن تيمية نصوص كثيرةٌ جداً في تقرير معرفة مواعيد الكسوف والخسوف، بل وقد شرح الطرق العلمية لمعرفة ذلك، ونصوصه هذه لدي مجموعة منذ زمن، لكن لا أريد الإثقال بذكرها كلها، وأظن ماسبق كافٍ في تأكيد الصورة التاريخية.

وقد نقل العلامة القرافي ما قرره ابن رشد الجد وأكده، حيث يقول (قال القاضي أبو الوليد ليس في معرفة الكسوف من جهة الحساب ادعاء غيب ولا ضلالة لأنه أمر منضبط بحساب حركات الكواكب)[القرافي، الذخيرة]

وأشار مؤرخ الإسلام الذهبي إلى أن معرفة مواعيد الكسوف والخسوف من العلوم الفلكية الصحيحة المقبولة، حيث يقول:
(وأما كسوف الشمس والقمر فشيء ظاهر، وأما حساب أهل الهيئة لذلك فشيء ما علمته يحرم أبداً ، وهو عندهم حساب قطعي ، ومن نظر في مستندهم جزم به) [الذهبي، تاريخ الإسلام]

والحقيقة أن النصوص التراثية حول الموضوع كثيرة، ويبدوا أن ما سبق كافٍ في برهنة قدم معرفة مواعيد الخسوف والكسوف، وأنها قبل أن يشرع الله صلاة الكسوف، بل قبل بعثة محمد، وأن فقهاء الإسلام الكبار قرروا أنها من العلوم الفلكية الصحيحة، ووضحوا أنها لا تعارض أساس شرعية صلاة الخسوف والكسوف.

حسناً .. أظن أنه من المناسب هاهنا أن ننتقل إلى ذكر بعض معالجات المعاصرين، فمن أطرف ذلك أنه كان في نجد في أيام أئمة الدعوة رجل مهتم بالفلك، ووجدوه يوماً في المسجد مستعدٌ لصلاة الخسوف! وقد روى القصة الشيخ محمد بن ابراهيم رحمه الله حيث يقول:
(وإن كان ذلك –أي معرفة مواعيد الخسوف والكسوف- يدرك بالحساب، لأن له أسبابًا معلومة عند علماء الهيئة، إلا أَن الحساب يخطىء ويصيب...، وأما انكار الجزم بوقت الكسوف والتحدث بذلك فهذا صنيع المشايخ مع من صدر منه ذلك، ينكرون عليه جزمه بذلك وافشاءَه، بل كان من المستفيض أَن رجلاً حاسبًا في بلد الدرعية، وقت أَولاد الشيخ محمد، أظنه يقال له ابن جاسر، كان ساكنًا في أَعالي الدرعية، فتوضأَ في نخله وركب حماره ونزل إلى مسجد البحيري، أَو غيره من المساجد الكبار في الدرعية، وكان يخبر من لقيه في الطريق أنه إنما نزل إلى المسجد لكون الشمس سيكسف بها وقت كذا وكذا من ذلك اليوم، فلما بلغ ذلك المشايخ من أَولاد الشيخ محمد رحمهم الله وغيرهم انكروا عليه جزمه بذلك وتوضئه وركوبه وسيره إلى المسجد لذلك)[ابن ابراهيم، مجموع فتاواه ورسائله]

وقد نبه الشيخ عبدالرحمن بن قاسم –وهو من أخص تلاميذ الشيخ محمد بن ابراهيم- على أن معرفة الخسوف والكسوف ليس من التنجيم المذموم (وقال غير واحد: معرفة الكسوف لا يختص بالمنجمين، بل هو مما إذا حسبه الحاسب عرفه.) [ابن قاسم، حاشية الروض]

أظنني أطلت بذكر نصوص ومعالجات الفقهاء، ولذلك سأختم بتقسيم جميل ذكره فقيه العصر الشيخ ابن عثيمين، حيث يقول:
(والناس في هذا ثلاثة أقسام: مفرط في إثبات الشرع يأخذ بما يظهر له منه، وينكر الأسباب القدرية فيقول "إن الكسوف ليس له سبب حسي، ولا يمكن أن يدرك بالحساب" وربما يكفرون، أو يضللون من يقول بذلك . والثاني: مفرط في إثبات القدر، فيقول "إن للكسوف أسباباً حسية تدرك بالحساب" وينكرون ما سواها، ويضللون من يعتقد سواها مما جاء به الشرع. وكلا القسمين مصيب من وجه، مخطىء من وجه. والصواب مع القسم الثالث الذين يأخذون بهذا وهذا، فيؤمنون بما شهد به الحس، وبما جاء به الشرع، ولا يرون بينهما تنافياً؛ فإن الله تعالى يقدر الكسوف بأسباب حسية، لكن تقديره لهذه الأسباب له حكمة وغاية اقتضته وهي تخويف الله تعالى لعباده، كما أن الصواعق، والعواصف، والزلازل المدمرة لها أسباب حسية معلومة عند أهل الخبرة، والله تعالى يرسلها ليخوف بها العباد،) [ابن عثيمين، مجموع فتاواه]

وخلاصة الأمر .. أن الخبرة البشرية الفلكية توصلت إلى معرفة مواعيد الكسوف قبل أن يشرع الله صلاة الكسوف أصلاً، بل قبل نبوة محمد أصلاً، وهذا يؤكد أن (صلاة الكسوف) ليس الأساس التشريعي لها كون بني آدم يجهلون موعد الكسوف، أو كونه يفاجؤهم بشكل اعتباطي خارج عن السنن الكونية، بل أساس تشريع صلاة الكسوف هو عظمة الآية ذاتها، فهذا النور الذي قال الله عنه (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا) يذهب ضوؤه بشكل مهيب بما يذكر الناس بذهاب ضوء هذه الآيات يوم القيامة كما قال تعالى (إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت)، ولذلك قال النبي عن هاتين الآيتين (يخوف الله بهما عباده) والتخويف ليس ناشئاً بسبب الجهل بموعد وقوع الآية، وإنما فرع عن هول الآية ذاتها.

وأما كوننا نعرف مواعيده فهذا ليس له أثر على انفعال الأثر الإيماني العظيم لهذه الآية لمن كان له عقل وقلب حي، ونظير ذلك أن (يوم عرفة) نحن نعرف موعده بدقة ومع ذلك إذا جاءت ساعاته وقربت لحظات غروب ذلك اليوم العظيم تجد قلوب غالب المؤمنين لا تملك مشاعرها ورقتها وخشيتها من الله، برغم أنها تعرف موعد هذا اليوم تماماً.
وكذلك الإنسان إذا صعد علوا يكبر تعظيما لله وهيبة له سبحانه، برغم أنه يعرف أنه سيصعد، فهل كونه يعرف يلغي فائدة التكبير؟!

وفي التجارب البشرية لو علم الإنسان أنه سيقام عليه عقوبة جنائية من قطع أو قصاص أونحوه بعد أسبوع فسيبقى متماسكاً إلى أن تحين لحظات ذلك اليوم، ثم سينهار ساعتها، فهل كونه يعرف موعد الحدث يلغي هول الحدث ذاته!

وضد ذلك أن الإنسان يعرف مواعيد الثمرة في بستانه، ومع ذلك إذا رآها نضجت لايملك مشاعر الفرح.
ومن تأمل في هذه النظائر وأمثالها علم علماً قطعياً أن معرفة زمن الحدث لا يلغي هيبة الحدث ذاته.
والنتيجة أن صلاة الكسوف فرع عن عظمة وهول وهيبة آية ذهاب نور الشمس أو القمر، وليس فرع عن كوننا نجهل وقوع هذا الشئ، وبالتالي فعلمنا به لا يلغي شرعيته ولايعود على الأصل بالإبطال.
ابوعمر
محرم 1430هـ
 



الكسوف والخسوف ... تقدَم العلم وتأخَر الإنسان
د. إبراهيم الفوزان | 20/8/1429 هـ
 
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد،،،

في الماضي القريب كانت الحوادث الكونية ككسوف الشمس وخسوف القمر التي يقدرها الله عز وجل مجهولة حتى تقع فيشاهدها الناس؛ وفي هذا العصر – عصر ازدهار العلوم – تغير الأمر تماما فأصبح من الممكن معرفة زمان ومكان حصول هذه الظواهر قبل وقوعها بسنوات. ومما لا شك فيه أن العلم نعمة أنعم الله بها على عباده وقد حث الإسلام على العلم والتعلم وعمارة الأرض ((أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ)) (الزمر: 9) وكتاب الله تعالى أنزل ليتدبره الخلق والتدبر لا يكون إلا بالفهم والعلم بالسنة وأقوال العلماء والعلم بدلالات الألفاظ ومعانيها والعلم بالكون وأحواله. ومما يجدر التنبيه له أن الله امتدح في أول الآية القانتين الذين يقومون الليل حذراً من الآخرة ورجاءاً لرحمته تعالى، وهذا العمل الذي هو القنوت والعمل للآخرة رجاء رحمة الله هو المقصود من العلم أما العلم الذي لا يورث عملاً فلا قيمة له.

لا شك أن الكفار قد سبقونا في هذا العصر في العلوم الطبيعية والإنسانية وعلوم الفلك وغير ذلك، لكنهم مع ذلك لم يستفيدوا من هذه العلوم في التعرف على الخالق الحكيم الذي أوجدهم من العدم وأوجد المواد والعناصر التي استفادوا منها وعرفوا كثيراً من أسرارها وسخروها في اشباع رغباتهم وشهواتهم الدنيوية، ومع ذلك لم يؤدِ بهم ذلك إلى الإستعداد للإخرة ((يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)) (الروم: 7).

العلم الذي لا يزيد في الإيمان والتقوى لا فائدة منه لأن العمارة الحقيقية للدنيا تكون بتطويع ما فيها من إمكانات مادية وعلمية لعبادة الله وحده لا شريك له. ما الفائدة من معرفة حدوث الكسوف والخسوف للبشر؟ هل الفائدة حاصلة في الإستمتاع بمشاهدة هذه الظواهر؟ نجد أن الكفار يجعلون من هذه الحوادث فرصة للمتعة بمشاهدتها ومتابعتها كونها حدثاً فريداً يرون فيه أمراً عظيماً ومشهداً بديعاً تتداخل فيه الكواكب ويغطي بعضها بعضا. ولهم ذلك فهم كما ذكر الله عنهم في الآية السابقة غافلون عن المعاد والحساب فكل ما في هذه الدنيا بالنسبة لهم متعة وقضاء شهوة لا غير. ومما يؤسف له تقليد بعض المسلمين لهم ففي أحد الصحف السيارة جاء الخبر التالي: "ضمن دوره الفعال في خدمة وتوعية المجتمع: سايتك يفتح أبوابه للزوار الراغبين في مشاهدة ظاهرة الكسوفالكلي للشمس.. اليوم"[1]!!!

نحن المسلمون نختلف عن القوم اختلافاً كبيراً، فجميع ممارساتنا الدنيوية مرتبطة بالشريعة الربانية. لا يمكن أن يوجد شئ في هذه الدنيا إلا وللشريعة فيه حكم وجوباً أو استحباباً أو تحريماً أو كراهةً أو جوازاً. ومن العجب أن أحد الإخوة الدعاة عندما ذكرت له أنني استفتيت في مسألة من المسائل قال لي: هذه المسألة لا تحتاج إلى فتوى! وهذا كلام غير صحيح البتة، فكل شئ مهما كان صغيراً أو كبيراً مهماً أو غير مهمٍ لابد أن يكون للشريعة فيه حكماً.

ونختلف أيضاً عن الكفار في نظرتنا للحياة وما فيها من سماء وكواكب وجبال وبحار وأن الله – جل وعلا – هو الذي خلقها وهو المصرف لها المدبر لشؤنها، لا يقع شئ في الكون إلا بإذنه لا راد لقضاءه وحكمه ((إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)) (الأعراف: 54) فالله وحده سبحانه القادر على تحريك هذه الكوكب وتصريفها فعندما يقدر سبحانه الكسوف يجعل القمر في مكان بين الشمس والأرض وكذلك الخسوف يجعل – سبحانه وتعالى – الأرض في مكان بين الشمس والقمر ولا أحد غير الله يستطيع أن يحدث كسوفاً ولا خسوفاً وإنما غاية ما يستطيعه الإنسان بتعليم الله له أن يعرف متى يحصلان. وهذا دليل على وحدانية الله – جل وعلا – وقدرته.

لو افترضنا أن مجموعة من الباحثين أو من غيرهم أرادوا إحداث كسوف أو خسوف في وقت لم يقدره الله – جل وعلا – فأنَّى لهم ذلك لعجز البشر المخلوقين وقدرة الخالق – جل وعلا – وحده. وفي موضوع مشابه لهذا ومتعلق به امتن الله على عباده في كتابه بتعاقب الليل والنهار الذين لا قوام للناس دونهما وبين أنه لا أحد غيره سبحانه يستطيع أن يأتي بأحد منهما ((قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ ¤ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ)) (القصص: 71-72).

إن الكسوف والخسوف آيتان من آيات الله تعالى يخوف بهما عبادة فعن ‏ ‏أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه ‏ ‏قال ‏قال رسول الله ‏‏صلى الله عليه وسلم: ((‏إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عبادهوإنهما لا ينكسفان لموت أحد من الناس فإذا رأيتم منها شيئا فصلوا وادعوا الله حتىيكشف ما بكم)).[2] رواه مسلم. فالمسلم دائم الخوف من ربه لا يأمن من مكر الله ولا يقنط من رحمته وكما قال غير واحد من السلف: الخوف والرجاء بالنسبة للمؤمن كجناحي طائر إذا اختل أحدهما سقط الطائر وإن اعتدلا طار وارتفع.

وقد جاء ذكر الخسوف مرة واحدة في كتاب الله تعالى في سورة القيامة عندما ذكر الله جل وعلا القيامة وأهوالها ومقدماتها قال تعالى: ((فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ¤ وَخَسَفَ الْقَمَرُ ¤ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ¤ يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ)) (القيامة: 7-10).

وقد كان من شدة خوف النبي صلى الله عليه وسلم من ربه جل وعلا أنه خرج مسرعاً خائفاً وجلاً عندما كسفت الشمس حتى أنه أخذ درع إحدى نساءه ظناً منه أنه رداءه كما جاء في صحيح مسلم من حديث ‏ ‏أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما ‏ ‏قالت: ((‏كسفت الشمس على عهد النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏ففزع فأخطأ بدرعحتى ‏ ‏أدرك ‏ ‏بردائه بعد ذلك))[3] الحديث.

‏ وقد نقل النووي رحمه الله تعالى سبب فزعه صلى الله عليه وسلم فقال: قال القاضي يحتمل أن يكون معناه الفزع الذي هو الخوف كما في الرواية الأخرى (يخشى أن تكون الساعة) ويحتمل أن يكون معناه الفزع الذي هو المبادرة إلى الشيء (فأخطأ بدرع حتى أدرك بردائه) معناه أنه لشدة سرعته واهتمامه بذلك أراد أن يأخذ رداءه فأخذ درع بعض أهل البيت سهوا , ولم يعلم ذلك لاشتغال قلبه بأمر الكسوف , فلما علم أهل البيت أنه ترك رداءه لحقه به إنسان. ‏أ. هـ.[4]

فالواجب على المسلم أن يقتدي بنبيه صلى الله عليه وسلم وأن يخاف ويوجل عند حلول هذه الظواهر الكونية كالكسوف والخسوف والأعاصير والفيضانات وغيرها، فنبينا صلى الله عليه وسلم جر رداءه[5] فزعاً عندما كسفت الشمس وهرع إلى الصلاة والتضرع لله ودعاءه، وكان إذا رأى الريح أو الغيم أقبل وأدبر خشية أن يكون عذاباً كما روى مسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها‏ عائشة قالت: ((‏كانرسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏إذا كان يوم الريح والغيم عرف ذلك في وجههوأقبل وأدبر فإذا مطرت سر به وذهب عنه ذلك قالت ‏ ‏عائشة ‏ ‏فسألته فقال ‏‏إنيخشيت أن يكون عذابا سلط على أمتي ويقول إذا رأى المطر رحمة))[6].

كثير من المسلمين في عصر التقدم العلمي وتأخر الإنسان لا يقيمون رأساً لهذه الآيات التي يخوف الله بها عباده لينيبوا إليه ويتذكروا، بل وصل الحال بكثير من المسلمين أن يواقعوا المعاصي أثناء حدوث هذه الحوادث العظيمة من خلال مشاهدة الفضائيات أو الإنترنت أو التسكع في الأسواق وقليلٌ هم الذين يتأسون برسولهم صلى الله عليه وسلم ويهرعون للصلاة والذكر والدعاء.

رحم الله الحسن البصري إذ قال: المؤمن يعمل بالطاعات، وهو مشفق وجل خائف، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن. وأصدق منه قول الباري عز وجل: ((أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ ¤ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ¤ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ)) (الأعراف: 97-99).


-----------------------------
1 جريدة الرياض، العدد 14648، في 29 رجب 1429 هـ.
[2] صحيح مسلم، كتاب الكسوف، ذكر النداء بصلاة الكسوف الصلاة جامعة.
[3] صحيح مسلم، كتاب الكسوف، باب ما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف.
[4] شرح صحيح مسلم للنووي، كتاب الكسوف، باب ما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف.
[5] صحيح البخاري، كتاب الجمعة، باب الصلاة في كسوف الشمس.
[6] صحيح مسلم، صلاة الإستسقاء، التعوذ عند رؤية الريح والغيم والفرح بالمطر.
 


الكسوف والخسوف .. يخوف الله تعالى بهما عباده
23/1/1431هـ
الشيخ / إبراهيم بن محمد الحقيل
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله العليم القدير؛ خلق الخلق بقدرته، وقَضى فيهم بعلمه وحكمته، فهداهم لما ينفعهم، وحذَّرهم مما يَضرُّهم، ويوم القيامة يجزيهم بأعمالهم، نحمده على السَّراء، ونلوذُ به في الضَّراء، فهو رافع العذاب، وكاشف البلاء؛ {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ الله ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل:53]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يُرسل الرياح مُبشِّرات، ويُخوِّف عباده بالآيات؛ ليدفعهم إلى الخيرات، ويَحجزهم عن الموبقات، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ امتلأ قلبُه لله - تعالى - مَحبَّةً وتعظيمًا ورجاءً وخوفًا، فكان إذا تَغيَّرت أحوالُ الكون، خَرج مذعورًا، وهَرعَ إلى ربه - سبحانه - داعيًا ومستغفرًا ومصلِّيًا، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد:
فأوصِي نفسي وإياكم - عباد الله - بتقوى الله - تعالى - فإنها نِعْمَ العُدَّةُ لوقت الشدَّة، وخير الزاد ليوم المعاد؛ {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197].

أيها الناس:
من رحمة الله - تعالى - بخلقه، وهدايته إياهم لدينه: أنه - سبحانه وتعالى - نَصبَ الأدلة الدالة عليه، وأوضحَ الطريقَ الموصلة إليه؛ فلا يَضلُّ عن الهُدى بعد معرفته إلا من زاغَ قلبه، وأصابه داءُ الإعراض والعُلو والاستكبار؛ {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف: 5].

إن آياتِ الله - تعالى - الشرعية، وآياته - سبحانه - الكونية في الآفاق والأنفسِ - أكثرُ من أن تُحصى، وهي دالة على عظمته وقُدرته، ووجوب عبادته وحده لا شَريك له؛ {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53].

والآية: هي العلامة الظاهرة، وكلُّ ما في الكون من عجائب المخلوقاتِ، فهو آيات دالة على خالقها - سبحانه وتعالى - {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190].

وتُطلَقُ الآية كذلك على المعجزة التي يُجريها الله - تعالى - لأنبيائه - عليهم السلام - حُجَّةً لهم، وتقوية لأتباعهم، ومُراغمةً لأعدائهم، وقد تكون آية رحمة؛ كنبع الماء من أصابع النبي، وتكثير الطعام ومباركته بدعائه - عليه الصلاة والسلام - ونحو ذلك، وقد تكون الآية عذابًا لقومٍ، وتخْويفًا لآخرين، ومنه قولُ الله - تعالى -: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آَيَةً} [الفرقان: 37]، وقال - سبحانه - في فرعون: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً} [يونس: 92].

وقد تكون الآية على سبيل التخويف والإنذار دونَ العذاب، فلا يُعذَّبُ الناسُ بها، ولكنهم بها يُنذرون ويُخوَّفون؛ {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59].

والشمس والقمر آيتان كونيَّتان ظاهرتان يَراهما البشرُ كلهم، وهما مُسخَّرتان لمنافعهم، وليس نفعهما لأحدٍ دون أحدٍ، ولا قدرة لأحد كائنًا من كان على التصرُّف فيهما؛ إذ ذاك من خصائص الربوبية، وقد جعلهما الله - تعالى - وسيلتين لتخويف العباد وتذكيرهم إذا تمادوا في غيِّهم، وانحرفوا عن دينهم.

أما كونهما آيتين، فيدلُّ عليه قول الله - تعالى -: {وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [فصلت: 37]، وأما كونهما وسيلتي تخويف وإنذار، فيدلُّ عليه قول النبيِّ: ((إِن الشمسَ والقمر آيتان من آياتِ الله لا يَنكَسِفان لموت أحدٍ، ولكنَّ الله - تعالى - يُخَوِّفُ بهما عباده))؛ رواه الشيخان.

والتخويف بالآيات يكون بسببِ تَساهُلِ العباد في الطاعات، وانتهاك الحُرمات، فيكون التخويف لمصلحتهم؛ مِن أجل أن يَرجعوا إلى ربهم، ويُراجعوا دينهم، ويَنتهوا عن غيِّهم، وهذه صفة أهل الإيمان؛ فإنهم إذا ذُكِّروا تذكروا، وإذا وعظوا اتعظوا، وإذا خُوِّفوا خافوا، فكيف إذا كان التخويف والتذكير بالآيات الكونية ممن يَقدر على البشر، ولا يقدرون عليه - سبحانه وتعالى؟!

إنه لا يَستهين بهذا التخويف والتذكير إلا أهلُ الغفلة والإعراض والاستكبار الذين تتنزل العقوبات بسببهم، وقد عُذِّبت الأمم السالفة بأمثالهم، إنهم الملأ من كلِّ قومٍ كذَّبوا فعُذِّبوا، وعُذِّب الناس بسببهم؛ لخضوعهم لقولهم، واتباعهم في غيهم، ونجَّى الله - تعالى - الرسل ومن آمن معهم.

إن من شرِّ أنواع الصدود عن الله - تعالى - التكذيب بآياته، وقد دلَّت الآيات الشرعية من الكتاب والسُّنة على أن الآيات الكونية وسيلة لتخويف العباد، ومن ذلك حدوث الكسوف والخسوف، ومن تكذيب الله - تعالى - وتكذيب رسوله الزعم بأن الكسوف والخسوف لا يُوجب الخوف منه، ولا التخويف به؛ بحُجة أنه ظاهرة كونية اعتيادية، كما يَصيح به جَهلة الإعلام والصحافة، وحالُ كثير منهم كحال المكذبين السابقين الذين أوبقوا أنفسهم، وعُذِّبت الأمم بسببهم، وقد قال الله - تعالى -: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 21].

إن حالهم وهم يكذِّبون خبرَ الله - تعالى - وخبر نبيه في الكسوف والخسوف، ويُعرضون عن آيات التخويف - كحال مَن أخبر الله - تعالى - عنهم بقوله: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} [الأنعام: 4]، وفي آية أخرى: {وَإِنْ يَرَوْا آَيَةً يُعْرِضُوا} [القمر: 2].

وأعظمُ من ذلك صدُّهم عمن يريد تخويف الناس بهذه الآيات، وسُخريتهم بهم وبما دلَّت عليه نصوص الكتاب والسُّنة؛ {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ * وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ * وَإِذَا رَأَوْا آَيَةً يَسْتَسْخِرُونَ} [الصافات: 12 - 14].

وتالله لكأن هذه الآيات تَنزَّلت فيهم حين نفوا آيات التخويف وسَخِروا بها، آيات كونية عظيمة يُخوِّف الله - تعالى - بها عباده فيعرضون عنها، ويدعون الناس للإعراض عنها؛ {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99].

وما ردَّهم عن فَهم آيات الله - تعالى - الكونية والشرعية - مع ادعائهم الثقافة والمعرفة - إلا كبرٌ امتلأتْ به صدورُهم، حتى غشا على أبصارهم وأسماعهم، وخُتم به على قلوبهم، فكانوا كمن قال الله تعالى فيهم: {سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 146]، يا لعظمة هذه الآية وهي تصفُهم: صُرفوا عن فَهم آيات الله - تعالى - الكونية والشرعية؛ بسبب كِبرهم على الله - تعالى - وعلى دينه وعلى أوليائه، فهاموا في سُبُل الغيِّ، وحادوا عن سبيل الرشاد، فكانوا أهل غفلة، ولو زعموا أنهم أهل ثقافة؛ {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 146]!

إن مَن زَعمَ أن ظاهرتي الكسوف والخسوف لا تستوجبان الخوف منهما، ولا التخويف بهما؛ فهو مُفترٍ على الله - تعالى - الكذب، مُكذِّب بآياته الشرعية، ويُخشى أن يكونَ هؤلاء المارقون المكذبون سبب عذاب على البلاد والعباد، كما كان أمثالهم من قَبلُ سببَ عذاب الأمم السالفة.

إنَّ رسولَنا محمدًا هو أعلمُ الخَلق بالله - تعالى - وبآياته الشرعية والكونية، ولَم يُؤت أحدٌ من البشر علمًا كعلمه؛ لأن الله - تعالى - هو الذي كلَّمه وعلَّمه؛ {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113]، ولما كسفت الشمس فَزعَ فزعًا شديدًا دلَّت عليه الأحاديثُ المنقولة إلينا؛ قال أبو مُوسَى - رضي الله عنه -: ((خسفت الشمس فقام النبي فَزِعًا يَخْشَى أن تكونَ الساعة، فأتى المسجد فصلَّى بأطول قيامٍ ورُكوعٍ وسُجودٍ رأيته قطُّ يفعله، وقال: هذه الآيات التي يُرسلُ الله لا تكونُ لموت أحدٍ ولا لحياته، ولكن يُخوِّفُ الله به عباده، فإذا رأيتم شيئًا من ذلك، فافزعوا إلى ذِكره ودعائه واستغفاره))؛ رواه الشيخان، ففزع وأمر الناس أن يَفزعوا إلى الصلاة والذكر والدعاء والاستغفار، وبلغَ من فزعه أنه أخطأ، فلبِس رداءَ بعض نسائه حتى لحقوه وأدركوه بردائه، قالت أسماء - رضي الله عنها -: ((فأخطأ بدرعٍ حتى أُدركَ بردائه بعد ذلك))؛ رواه مسلم.

ويدلُّ على فزعه إطالته للصلاة طولاً لم يَعهدوه وهو الذي يأمر بالتخفيف؛ قال جابر - رضي الله عنه -: ((فأطالَ القيامَ حتى جعلوا يَخِرُّونَ))؛ رواه مسلم، وقالت أسماء - رضي الله عنها -: ((فأطال رسول الله القيام جِدًّا حتى تَجَلَّانِي الغشي، فأخذت قِربةً من ماءٍ إلى جَنبِي فجعلتُ أصبُّ على رأسي أو على وجهِي من الماء))؛ رواه الشيخان.

أيأتي بعدَ هذا كله مُكذِّبون دجَّالون مُتهوِّكون يُفلسفون القضايا الشرعية؛ ليُفرِّغوها من معانيها الإيمانية، ويَكذبون على الناس في ذلك، وينهونهم عن الخوف أو التخويف بالآيات الربانية، ويُصدقهم كثيرٌ من الناس، فينصرفون عن الفزع والخوف من الله - تعالى - فتقع آيات التخويف وهم في مجالس اللهو والمعصية يَلعبون ويضحكون، نعوذ بالله - تعالى - من الغفلة، ونسأله الهداية لنا وللمسلمين أجمعين.

 أقول ما تسمعون وأستغفر الله.

الخطبة الثانية
 الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد:
فاتقوا الله - تعالى - وأطيعوه، واحذروا نقمةَ الجبار - جل وعلا - فإن أخذه أليم شديد، وعذابه إذا وقع فلا دافع له، ولا يَقع عذابه - سبحانه - إلا بعد تتابع نذره؛ {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 43 - 44].

أيها المسلمون:
لقد انتشرَ في زمننا هذا الاستهانةُ بالذنوب والمعاصي، والتقليل من شأنها وآثارها، ودعوة الناس إليها، وتزيينها لهم بالباطل، وتسويغها بالحِيَل الشيطانية، وإباحة ما حرَّم الله - تعالى - باتباع المتشابه من النصوص، وتأويل المحكَم وتزْويره، على أيدي الليبراليين المفسدين، ومَن ركبوهم وطبَّلوا لهم من أحبار السوء، ومشايخ الضلالة، وطلاب الدنيا، ممن رقَّ دينهم، وعَظُمَتْ مصيبة الأمة بهم، فحرَّفوا الكَلِم عن مواضعه، ولبَّسوا على الناس دينهم، وشرَّعوا لأهل الانحراف والفساد من الدين ما لم يأذن به الله - تعالى - مع ضَعف أهل الحقِّ والهُدى في الدفاع عنه، وتحذير الناس من الباطل وأهله.

وكذلك فشا الظلم والبَغي بين العباد: ظُلم الناس لأنفسهم بالمعاصي، وظلم بعضهم لبعض، وعدم أدائهم ما عليهم من الواجبات، واستحلالهم للحقوق، كلُّ ذلك من أسباب العذاب، ولولا رحمة الله - تعالى - بنا وحلمه علينا، وإمهاله لنا، لعذَّبنا بما كسبت أيدينا.

 لقد كان الناس من قَبل يراجعون أنفسهم في الملمَّات، ويلجؤون إلى الله - تعالى - في المصائب والمدلهمات، ولكن في السنوات الأخيرة بلغتْ قسوة القلوب مداها، وأجلب شياطين الإعلام على الناس بخيلهم ورجْلِهم، فأفسدوا أخلاقهم، ومرَّدوهم على شريعة الله - تعالى - طعنًا فيها، واستهانة بها، ومُحاربة لحَمَلَتِها ودُعاتها، حتى قست القلوب عن المواعظ، وتمرَّدت على الشرائع، وتتابعت الآيات والنُّذر على العباد ولا تحرك فيهم ساكنًا.

أوبئةٌ ما عرفها الناس من قبل، وهِزَّات اقتصادية تُنذر بفتنٍ ومجاعات، وحروب تَتسع رقعتها ويزيد ضحاياها في أقطارٍ شتَّى، وتسلُّط من أعداء الداخل والخارج، والناس في غفلة عما يُحيط بهم، فمتى يدركون أنهم في خطر؟! ومتى يُوقنون أنه لا خلاص لهم إلا بالتعلُّق بربهم، والتمسك بدينهم، والتوبة من ذنوبهم؟! وإلا حقَّ عليهم العذاب، ونزلت بهم المثُلات، إذا لم يَتعظوا بالنُّذر والآيات، وقد قال الله - تعالى - في قومٍ: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس:101]، جاء عن التابعي الجليل طاوس بن كيسان - رحمه الله تعالى -: أنه نظَرَ إلى الشمس وقد كَسفت، فبكى حتى كادَ يموت، وقال: هي أخوف لله منَّا.

وصلَّوا وسلِّموا..
 


الكسوف والخسوف (1)
20/8/1428
 إبراهيم بن محمد الحقيل

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِل فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسـوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70- 71].
أما بعد: فإنَّ أحسن الحديث كلام الله – تعالى -، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشرَّ الأمور مُحْدثاتها، وكُلَّ مُحْدَثةٍ بِدْعَةٌ، وكُلَّ بِدْعَةٍ ضلالةٌ، وكل ضلالة في النار.

أيُّها النَّاسُ: خلق الله - تعالى - النيِّريْنِ: الشَّمْسَ والقَمَرَ، وسخَّرَهُمَا لِلعِبادِ، وجعل فيهما مِنَ المَنافِعِ والمصالح لأهل الأرض، ومَنْ عليها ما لا يقدر قدره إلا الله - تعالى -: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالحَقِّ يُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [يونس: 5].
آيَتَانِ عَظِيمَتَانِ، وبُرْهانانِ كبيرانِ على قُدْرَةِ الخالِق - سبحانه -، وعلى عظيم إفضاله وإنعامه على عباده: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33]، {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} [الفرقان: 61].
إنَّهُما بِأَمْرِ الله - تَعالَى - وتقديرِه كانا سَبَبَ اللَّيْلِ والنَّهار، والنور والظلام، وانتظام الحياة، وعمارة الأرض، وفي اختلالهما اختلال الحياة، وفساد النظام، وذلك يكون حين يأذن الله - تعالى - بانتهاء الحياة الدنيا وبدء الحياة الآخرة، حينها تكور الشمس، ويخسف القمر: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التَّكوير: 1]، وقال - سبحانه -: {وَخَسَفَ القَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالقَمَرُ} [القيامة: 8 – 9].

وفي الحياة الدنيا، يحصل كسوف الشمس وخسوف القمر؛ تخويفًا للعباد وتذكيرًا، حتى يؤبوا إلى الله - تعالى - ويتوبوا، قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: ((إن الشمس والقمر لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أحدٍ مِنَ النَّاس؛ ولكنَّهُما آيَتَانِ من آيات الله فإذا رأيتُمُوهُما فَقُوموا فصلُّوا))؛ متفق عليه[1].
فحصول الكسوف والخسوف فيه تخويف للعباد، وتذكير لهم في حال غفلتهم، والأمم السالفة عُذِّبَتْ بأنواع من العذاب الذي أرسل عليهم من السماء؛ كالغرق والريح والصيحة ونحوها، والعالم يسير بانتظام، فالشمس لها وقت شروق ووقت غروب لا تتخلف عنه، ويصدر منها إشعاع ينفع الأرض ومن عليها، والقمر له منازل مقدرة في بداية الشهر وانتصافه ونهايته، لا يتخلف عن شيء منها، وله نور جميل عند اكتماله في منتصف الشهر؛ فإذا ما ذهب إشعاع الشمس، ونور القمر أو بعضهما؛ كان هذا علامة على اختلال انتظامهما المعتاد، فيخاف العباد أن يكون ذلك بداية عذاب، وهذا من تخويف الله - تعالى - للعباد بهذين النيرين.

وما في الشمس والقمر من المنافع العظيمة يجعل أهل الأرض محتاجين إليهما، فلما يختل نظامهما؛ فتكسف الشمس أو يخسف القمر يخاف العباد من ذهاب ما ينتفعون به من نورهما.
ومن التخويف بالكسوف والخسوف أيضًا: أن اختلالَ النَّيِّرَيْنِ بِالكُسُوفِ والخُسُوفِ مُذَكِّر بيوم القيامة، وما يجري فيه من اختلالهما، وذهاب نورهما؛ إيذانًا بانتهاء العالم الدنيوي؛ فيخاف العباد عند حدوث ذلك من نهاية الدنيا، أو يتذكرون يوم القيامة فيُحْدِثُ الكسوفُ والخسوفُ خوفًا منه.
قال الخطَّابي - رحمه الله تعالى -: "كانوا في الجاهلية يعتقدون أن الكسوف يوجب حدوث تغيُّرٍ في الأرض من موت أو ضرر، فأَعْلَمَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنه اعتقادٌ باطل، وأن الشمس والقمر خَلْقان مُسَخَّرانِ لله – تعالى -، ليس لهما سلطانٌ في غيرهما، ولا قدرةٌ على الدفع عن أنفسهما"[2] ·
إذًا فالنيران ينكسفان تخويفًا للعباد، والتخويف إنما يكون بوجود سبب الخوف، فعُلم أن كسوفهما قد يكون سببًا لأمر مخوف، والله - تعالى - يخوف عبادَهُ بآياته: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآَيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59] فعلم أن هذه الآيات السماوية قد تكون سبب عذاب؛ ولهذا شرع للنبي - صلى الله عليه وسلم - عند وجود سبب الخوف ما يدفعه من الأعمال الصالحة[3].

وليس ذلك يمنع معرِفَةَ وَقْتِ حُدوثِ الكُسوفِ من قِبَلِ أَهْلِ الهَيْئَةِ والفَلَكِ بما يعملونه من حساباتٍ، يُعرف بِها وقت حدوثه ومدته، ووقت انجلائه، وهذا ما قرَّرَهُ شَيْخُ الإسلامِ ابْنُ تَيْمِيَّة - رحمه الله تعالى- بقوله: "فإذا كان الكسوف له أجلٌ مُسَمًّى لم يناف ذلك أن يكون عند أجله يجعله الله - تعالى - سببًا لما يقتضيه من عذابٍ وغيره لمن يعذب الله في ذلك الوقت، أو لغيره ممن يُنْزِلُ الله به ذلك. كما أنَّ تعذيبَ الله -تعالى - لِمَنْ عذَّبَهُ بِالريح الشديدة الباردة؛ كَقَوْمِ عادٍ كانتْ في الوَقْتِ المُناسِبِ، وهو آخر الشتاء"[4].

وقال ابن دقيق العيد: "ربما يعتقد بعضهم أن الذي يذكره أهل الحساب ينافي قوله: {يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ} [ الزمر: 16]وليس بشيء؛ لأن لله - تعالى - أفعالاً على حسب العادة، وأفعالاً خارجة عن ذلك، وقدرته حاكمة على كل سبب، فله أن يقتطع ما يشاء من الأسباب والمسببات بعضها من بعض. وإذا ثبت ذلك فالعلماء بالله - تعالى - لقوة اعتقادهم في عموم قدرته على خرق العادة، وأنه يفعل ما يشاء إذا وقع شيء غريب حدث عندهم الخوف؛ لقوة ذلك الاعتقاد؛ وذلك لا يمنع أن يكون هناك أسباب تجري عليها العادة إلى أن يشاء الله خرقها، وحاصله أن الذي يذكره أهل الحساب حقًّا في نفس الأمر، لا ينافي كون ذلك مخوفًا لعباد الله - تعالى -"[5]·

وعليه فإن معرفة وقت الكسوف والخسوف ليس من الغيب؛ بل يُدرك بالحساب، "وكما أن العادة التي أجراها الله – تعالى -: "أن الهِلال لا يستهل إلا ليلة ثلاثين من الشهر أو ليلة إحدى وثلاثين، فكذلك أجرى الله العادة أن الشمس لا تكسف إلا وقت الاستسرار، وأن القمر لا يخسف إلا وقت الإبدار، وللشمس والقمر ليالي معتادة من عرفها عرف الكسوف والخسوف، كما أنَّ من علم كم مضى من الشهر يعلم أنَّ الهلال لا يطلع في الليلة الفُلانية أو التي قبلها، لكن العلم بالعادة في الهِلال علم عامٌّ يشترك فيه جميع الناس، وأما العلم بالعادة في الكسوف والخسوف، فإنما يعرفه من يعرف حساب جريانهما، وليس خبر الحاسب بذلك من علم الغيب.

وأما تصديق المخبر بذلك وتكذيبه فلا يجوز أن يصدق إلا أن يُعلم صدقه، ولا يكذب إلا أن يعلم كذبه... والعلم بوقت الكسوف والخسوف وإن كان ممكنًا لكن المخبر قد يكون عالمًا بذلك وقد لا يكون، وقد يكون ثقة في خبره وقد لا يكون... ولكن إذا تواطأ خبر أهل الحساب على ذلك فلا يكادون يخطئون، ومع هذا فلا يترتب على خبرهم علمٌ شرعي؛ فإن صلاة الكسوف والخسوف لا تُصَلَّى إلا إذا شاهدنا ذلك، وإذا جوَّز الإنسانُ صِدْقَ المخبر بذلك، أو غلب على ظنه فنوى أن يُصَلِّيَ الكسوف والخُسوف عند ذلك، واستعدَّ ذلك الوقتَ لِرُؤْيَةِ ذلك كان هذا حثًّا من بابِ المُسَارَعَةِ إلى طاعة الله تعالى وعبادَتِه؛ فإنَّ الصلاةَ عند الكسوف متفق عليها بين المسلمين، وقد تواترت بها السُّنَنُ عنِ النبي - صلى الله عليه وسلم –" ا. هـ مُلَخَّصًا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -[6].

ومما يلاحظ ـ أيها الإخوة ـ أن العلم بوقت حدوث الكسوف والخسوف هوَّن وقعه على النفوس، حتى صار أكثر الناس يَشْتَغِلُ بالفرجة على الكسوف، ووقت بدايته وانجلائه عن الخوف من الله - تعالى -، والفزع إلى الصلاة والذكر، والدعاء والاستغفار، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لما كسفت الشمس خاف، وفزع إلى الله تعالى بالصلاة.

قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "انخسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقام قيامًا طويلاً نحوًا من قراءة سورة البقرة، ثم ركع ركوعًا طويلاً، ثم رفع فقام قيامًا طويلاً وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعًا طويلاً وهو دون الركوع الأول، ثم سجد، ثم قام قيامًا طويلاً وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعًا طويلاً وهو دون الركوع الأول، ثم رفع فقام قيامًا طويلاً وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعًا طويلاً وهو دون الركوع الأول، ثم سجد، ثم انصرف وقد تجلّت الشمس فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله))، قالوا: يا رسول الله: "رأيناك تناولت شيئًا من مقامك، ثم رأيناك كعكعت"، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إني رأيت الجنة فتناولت عنقودًا ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار فلم أر منظرًا كاليوم قط أفظع...))؛ متفق عليه[7].

وفي حديث آخر أنه - صلى الله عليه وسلم - جعل يبكي في سجوده وينفخ ويقول: ((رب لم تعدني هذا وأنا أستغفرك، لم تعدني هذا وأنا فيهم))[8].
ألا فاتقوا الله ربكم، واعتبروا بالآيات والنذر، واحذروا الذنوب والغفلة، وإذا رأيتم آيات الله - تعالى - في الشمس والقمر بالكسوف والخسوف، فاهرعوا إلى الصلاة، وأكثروا الدعاء والاستغفار.
أعوذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآَيَاتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآَيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله - صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين -.
أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله - بفعل ما أمر، واجتنبوا الفواحش ما بطن منها وما ظهر، واعلموا أن الله مع المتقين.
أيها الناس: ظاهرة كسوف الشمس وخسوف القمر وإن كانت ظاهرة فَلَكِيَّة تعرف بالحساب في وقت الابتداء والانجلاء، إلا أنه يجب أن لا يكون العلم بها سببًا لذهاب هيبتها من النفوس؛ بل الواجِبُ على المسلم أن يخاف من كل تغيُّر في الظواهر الفَلَكِيَّة، خشية أن يكون عذابًا؛ كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم – يفعل.

فقد ذكرت عائشة - رضي الله عنها - أنه - عليه الصلاة والسلام -: "كان إذا رأى غيمًا أو ريحًا عرف في وجهه، قالت: يا رسول الله، الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيتَهُ عُرِفَ في وَجْهِكَ الكَرَاهِيَةُ، فقال: يا عائشة، ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب؟ عُذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24]؛ رواه الشيخان[9].
وقد جاء في أحاديثَ كثيرةٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمر بالفزع إلى الصلاة، وذكر الله - تعالى -، ودعائه واستغفاره، وذلك عند رؤية الكسوف أو الخسوف.

كما جاء في حديث عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة))؛ متفق عليه[10].
وفي رواية: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا، وصلوا وتصدقوا، ثم قال: يا أمة محمد، والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد، لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا))[11].
قال الطيبي: "لما أُمروا باستدفاع البلاء بالذكر والدعاء والصلاة والصدقة ناسب ردعهم عن المعاصي، التي هي من أسباب جلب البلاء، وخص منها الزنى لأنه أعظمها في ذلك"[12].

وإذا انتهى المصلون من صلاة الكسوف ولما ينجل بعد فعليهم بذكر الله - تعالى - حتَّى ينجليَ؛ لما رَوَتْ عائشة - رضي الله عنها - عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((فإذا رأيتم كسوفًا فاذكروا الله حتى ينجليا))؛ رواه مسلم[13].

ولم يأمر - عليه الصلاة والسلام - بالانشغال برصد هذه الظاهرة، ومشاهدتها، ومتابعة بدء الكسوف وانجلائه عن الصلاة والذكر والاستغفار؛ كما هو واقع كثير من الناس الذين حولوا آيات التخويف، وأمارات العذاب إلى ما يشبه مواسم الفرح والعيد والفُرْجَة.

فالواجب على المسلمين أن يهرعوا عند الكسوف إلى الصلاة، ويكثروا من الاستغفار والصدقة والذكر حتى ينجلي، ولا يكون شأنهم شأن ضُلال أهل الأرض من الكفار ومن تبعهم في طريقتهم؛ إذ يشتغلون عن ذلك بما لا يدفع عذابًا، ولا يجلب رحمة، نسأل الله الهداية والعافية.
ألا وصلوا وسلموا على خير خلق الله؛ كما أمركم ربكم بذلك.

-----------------------------------------
[1] أخرجه البخاري في الكسوف؛ باب الصلاة في كسوف الشمس (1041)، ومسلم في الكسوف باب ذكر النداء بصلاة الكسوف (911) من حديث أبي مسعود البدري - رضي الله عنه -.
[2] إعلام الحديث (1/60)، وهو كلام طويل واختصره الحافظ في "الفتح" (2/613).
[3] "فتاوى شيخ الإسلام" ابن تيمية (25/191).
[4] "فتاوى شيخ الإسلام" (35/176).
[5] "فتح الباري" (2/625)، وانظر: "فتاوى شيخ الإسلام" (24/259).
[6] "فتاوى شيخ الإسلام" (24/255 ـ 258).
[7] أخرجه البخاري في الكسوف باب صلاة الكسوف جماعة (1052)، ومسلم في صلاة الكسوف باب ما عرض للنبي - صلى الله عليه وسلم - (907 ـ 908 ـ 909)، وأبو داود في الصلاة باب من قال صلاة الكسوف أربع (1181 ـ 1183)، والترمذي في الصلاة باب ما جاء في صلاة الكسوف (560)، والنسائي في الكسوف باب القراءة في صلاة الكسوف (3/146).
[8] أخرجه النسائي في الكسوف باب القول في السجود في صلا الكسوف (3/149)، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (1401 ـ 1407)، من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما.
[9] أخرجه البخاري في التفسير، سورة الأحقاف، باب قوله: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} [الأحقاف: 24]، ومسلم في الكسوف باب التعوذ عند رؤية الريح والغيم، والفرح بالمطر (899).
[10] أخرجه البخاري في الكسوف باب لا تنكسف الشمس لموت أحد ولا لحياته (1058)، ومسلم في الكسوف باب صلاة الكسوف (901).
[11] هذه الرواية للبخاري في الكسوف باب الصدقة في الكسوف (1044).
[12] "فتح الباري" لابن حجر (2/617).
[13] أخرجه مسلم في الكسوف باب صلاة الكسوف (901).
 


آيتان من آيات الله

أيها المسلمون: سخَّرَ اللهُ الشمس والقمر في حركة دائبة لا تختلف, وفي مساراتٍ وأفلاكٍ لا تتخلف, ليعلم الناس عدد السنين والحساب، ولكي تنضج الثمار حسب الفصول والأزمان، فهو سبحانه سخَّرَهُما يسيران بنظام بديع محكم, قال الله تعالى:{وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40,37], وقال تعالى: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام:96]، قال ابن كثير: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً}: أي يجريان بحساب مقنن مقدر، لا يتغير ولا يضطرب، بل لكل منهما منازل يسلكها في الصيف والشتاء، فيترتب على ذلك اختلاف الليل والنهار طولاً وقصراً ", انتهى. ففي سيرهما مصالح ومنافع كثيرة, {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل:88].

والكسوف والخسوف حالة نقصٍ تعتري النيِّرين: الشّمس والقمر, بذهاب أو نقصان ضوئهما, والمعنى: احتجاب ضوء الشمس أو القمر أو بعضه بسبب معتاد يخوف الله به عباده, فذهاب ضوئهما يكون كلاً أو بعضاً, والكسوف يطلق على الخسوف وكذا العكس لصحة الأحاديث والآثار بذلك, والحاصل أن للكسوف أسباباً طبيعية يقر بها المؤمنون والكافرون، وكذا لها أسبابٌ شرعية يقر بها المؤمنون وينكرها الكافرون, فاجتماع النيرين في آخر الشهر, أو حيلولة الأرض بين الشمس والقمر في وسط الشهر سبب حسي لخسوف القمر, فالقمر جرم مُعْتِمٌ يستمد نوره من الشمس، فإذا حالت الأرض بينهما وقع الخسوف, ويحدث الكسوف بسبب مرور القمر بين الأرض والشمس، فعندها يحجب القمر قرص الشمس فنرى شيئا أسودا أمام قرص الشمس ألا وهو القمر، والكسوف الحلقي يبدأ من دخول كامل قرص القمر داخل قرص الشمس وينتهي فور بداية خروج حافة القمر من قرص الشمس.

عباد الله: المسلم ينظر إلى الظواهر الفلكية نظرة علمية وأخرى شرعية, فقد فَضَّل الله المسلم على الكافر: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:9] فلله تبارك وتعالى في تقديره الكسوف حكمتان, حكمة قدَرِيَّةٌ يحصل الكسوف بوجودها وهذه معروفةٌ عند علماء الفلك وأهل الحساب, وحكمٌ شرعية منهاتخويف العباد, وقد نص النبي صلى الله عليه وسلم عليها بقوله: (بخوف الله بهما عباده), فتتنبه القلوب إلى عظمة سلطان الله تعالى ونفوذ قدرته، فالذي قدَّر السبب الحسي حتى حصل الكسوف أو الخسوف هو الله تعالى لأجل أن يخاف الناس ويحذروا, فحِكَمَ الخسوف والكسوف الشرعيَّة عظيمةٌ يظهر منها بعد كل حين شيءٌ ليزداد الذين آمنوا إيمانا, وقد ذكر أهل العلم نبذة من تلك الحكم, قال ابن حجر رحمه الله: "من حكمة وقوع الكسوف تبيين أنموذج ما سيقع في القيامة", ونقل المناوي عن الطبري قوله: "وللكسوف فوائد منها: ظهور التصرف في هذين الخلقين العظيمين, وإزعاج القلوب الغافلة وإيقاظها, وليرى الناس أنموذج القيامة وكونهما يفعل بهما ذلك ثم يعادان, فيكون تنبيها على خوف المكر ورجاء العفو, والإعلام بأنه قد يؤخذ من لا ذنب له فكيف بمن له ذنب". وقال الزمخشري: "قالوا حكمة الكسوف أنه تعالى ما خلق خلقا إلا قيض له تغييره أو تبديله, ليستدل بذلك على أن له مسيِّرا ومبدلا, ولأن النيرين يعبدان من دون الله تعالى فقضى عليهما بسلب النور عنهما, لأنهما لو كانا معبودين لدفعا عن نفسهما ما يغيرهما ويدخل عليهما".

وفي عصر التقدم العلمي الدنيوي كثير من الناس لا يرفعون رأساً لهذه الآيات التي يخوف الله بها عباده, ويسعى ناسٌ ممن لا خلاق لهم إلى إبعاد المسلمين عن دينهم لتقسوا قلوبهم ولا يبقى لديهم اهتمام بهذه الآية العظيمة، فصار البعض يغمره الفرح ويستبشر بوقوع هاتين الآيتين، ومنهم من يذهب إلى قمم الجبال وأعالي التلال ليشاهدوا ذلك الحدث العظيم بالمناظير, وبعض الجهات تفتح أبوابها للمتفرجين لرؤية هذه الظاهرة من خلال المقربات والمكبرات, وإن من البلاء العظيم أن تتحول هذه الآيات التي أراد الله تخويفنا بها إلى وسيلة متعة، وإنه ليخشى على أناس يسلكون هذا الطريق أن يكونوا ممن قال الله فيهم: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً}[الإسراء:60].
ولا يُقَلِّلُ من شأن الخسوف معرفة أسبابه الحسيَّة, فالمعرفة القبلية للكسوف لا تمنع كونها آية تخويفية, فالعلم بالأسباب الحسيَّة لا يغير الحكم ولا يبطل الحكمة, فقد يُعرف وقت خسوف القمر وكسوف الشمس عن طريق حساب سير الكواكب, ويعرف كونه كلياً أو جزئياً ولا غرابة؛ لأنه ليس من الأمور الغيبية لكل أحد، بل غيبي بالنسبة لمن لا يعرف علم حساب سير الكواكب, وليس بغيبي لمن يعرف ذلك العلم لكونه يستطيع أن يعرف بسبب عادي هو هذا العلم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والعلم بوقت الكسوف والخسوف وإن كان ممكناً لكن هذا المخبر المعيَّن قد يكون عالماً بذلك وقد لا يكون، وقد يكون ثقةً في خبره وقد لا يكون، وخبر المجهول الذي لا يوثق بعلمه وصدقه ولا يعرف كذبُه موقوفٌ، ولو أَخبرَ مخبِرٌ بوقت الصلاة وهو مجهولٌ لم يُقبل خبرُه لكن إذا تواطأ خبر أهل الحساب على ذلك فلا يكادون يخطئون. ا.هـ, وكثير من الناس تضيق قلوبهم وتضل أفهامهم عن الجمع بين السبب الحسي والسبب الشرعي, فأكثر الناس لا يعتبرون إلا بالشيء الظاهر, قال ابن دقيق العيد: "ربما يعتقد بعضهم أن الذي يذكره أهل الحساب ينافي قوله صلى الله عليه وسلم: (يخوف الله بهما عباده) وليس بشيءٍ, لأنَّ لله أفعالاً على حسب العادة، وأفعالاً خارجةً عن ذلك، وقدرتُه حاكمةٌ على كلِّ سببٍ، فله أن يقتطع ما يشاء مِن الأسباب والمسببات بعضها عن بعضٍ، وإذا ثبت ذلك فالعلماء بالله لقوة اعتقادهم في عموم قدرته على خرق العادة وأنه يفعل ما يشاء إذا وقع شيءٌ غريبٌ حدث عندهم الخوف لقوة ذلك الاعتقاد، وذلك لا يمنع أن يكون هناك أسبابٌ تجري عليها العادة إلى أن يشاء الله خرقها؛ وحاصله: أنَّ الذي يذكره أهل الحساب إن كان حقّاً في نفس الأمر لا ينافي كون ذلك مخوفاً لعباد الله تعالى". أ.هـ.

وإذا كان الإنسان وعن طريق السنن الكونية ولتعلمه الأسباب والمقدمات يتوقع حدوث آيةٍ فلا يعني ذلك ذهاب خوفه وفزعه, فيتوقع الإنسان نزول المطر برؤية السحاب، لكنه لا يدري ما نوع هذا المطر وما لبثه في الأرض, ولا يعلم نفعه وضره، ولا ما يصاحبه من عذاب وهذا ما يوجب الخوف, وهذا عكس حال أهل الغفلة قال الله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف:24] ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بربه وأشدهم خوفا منه كان منه هذا الفزع, روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلَّى الله عليه وسلم إذا رأى مخيلة -سحاباً- في السماء أقبل وأدبر ودخل وخرج وتغير وجهه، فإذا أمطرت السماء سرِّيَ عنه... الحديث, فلا مانع أن يخوف الله العباد بأمر سببه حسي؛ كما أن قواصف الرعد والصواعق لها سبب حسيٌ، ومع ذلك يخوف الله بها العباد؛ كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَخَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ * وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُبِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد13,12] فالأمر الحسي لا يُنافي الحِكمة من إيجاده, والتخويف منهج إلهي ذكره الله سبحانه في كتابه فقال: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا},[الإسراء:59] وقال تعالى:{وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء:60], ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وهذا بيانٌ منه عليه الصلاة والسلام أنهما سبب لنزول عذاب الناس فإن الله إنما يخوف عباده بما يخافونه إذا عصوه، وعصوا رسله، وإنما يخاف الناس مما يضرهم، فلولا إمكان حصول الضرر بالناس عند الخسوف ما كان ذلك تخويفاً، قال تعالى:{وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً} [الإسراء:59], وأمرَ النبي عليه الصلاة والسلام بما يزيل الخوف، فأمر بالصلاة والدعاء والاستغفار والصدقة والعتق حتى يكشف ما بالناس", وقد يكون هذا التخويف لعقوبة انعقدت أسبابها, فيُستَدفَعُ العذاب بصالحات الأعمال سيما ما أكَّد عليها المصطفى صلَّى الله عليه وسلم في خطبته تلك, من الصلاة والاستغفار والعتاقة ونحوها, وقد يدفع الله بصلاة المسلمين ودعائهم وموافقتهم سنة النبي صلى الله عليه وسلم من الشرور ما لا يعلمه إلا الله, يقول ابن حجر رحمه الله: "فيه رد على من يزعم أن الكسوف أمر عادي لا يتأخر ولا يتقدم، إذ لو كان كما يقولون لم يكن في ذلك تخويف، ويصير بمنزلة الجزر والمد في البحر".
أيها المسلمون: والذي ينبغي التأكيد عليه أنه لا يشرع الاهتمام برصد مواعيد الكسوف بهذه الصورة المبالغ فيها، لأن ذلك مما لم يأمرنا الله به ولا رسوله صلَّى الله عليه وسلم, وليس في الإخبار بوقت الكسوف مصلحة للمكلفين ولا كبير فائدة ترجى, إذ الصلاة لا تصلى للكسوف بمجرد الإخبار, بل حتى يرى بالعين المجردة, فلو كانت الشمس عليها غمام ونشرت الصحف قبل ذلك بأنه سيحصل كسوف ساعة كذا وكذا فلا يصلى اعتماداً على الجرائد ولا على كلام الفلكيين، لأن النبي صلى الله عليه وسلم علق الحكم بالرؤية، فقال صلَّى الله عليه وسلم: (فإذا رأيتموها فافزعوا إلى الصلاة), والمؤيَّدُ بالوحي صلَّى الله عليه وسلم لم يُخْبَر بوقت الكسوف, وإتيانه بغتة أشد وقعا في قلوب الناس, قال ابن تيمية: ومع هذا فلا يترتب على خبرهم -يعني أهل الفلك- علمٌ شرعيٌّ فإنَّ صلاة الكسوف والخسوف لا تُصلَّى إلا إذا شاهدنا ذلك وإذا جوَّز الإنسانُ صدق المخبر بذلك أو غلب على ظنِّه فنوى أن يصلي الكسوف والخسوف عند ذلك واستعد ذلك الوقت لرؤية ذلك,كان هذا حثّاً مِن باب المسارعة إلى طاعة الله تعالى وعبادته" أ.هـ.
وهؤلاء المخبرون بأوقات الخسوف ابتداءً وانتهاءً يعلمون أنه لا أحد غير الله يستطيع أن يحدث كسوفاً ولا خسوفاً, وإنما غاية ما يستطيعه الإنسان بتعليم الله له أن يعرف متى يحصلان, وهذا دليل على وحدانية الله جل وعلا وقدرته.
أيها الناس: لكم هي كثيرة مرويَّات الصحابة في وصفهم حال النبي صلى الله عليه وسلم في واقعة كسوف الشمس التي حدثت في أواخر حياته صلَّى الله عليه وسلم, وحريٌّ بالمسلم الاسترشاد بالسنة كلما وقع كسوف للشمس أو خسوف للقمر, فكما كان هديه صلَّى الله عليه وسلم في أنه إذا حزبه أمر – أي اشتد عليه وأهمّه – فزع إلى الصلاة, فإنه صلَّى الله عليهوسلم فزع إلى الصلاة ومن شدة فزعه أخطأ فأخذ درعَ بعض نسائه حتى لحقوه وأدركوه بردائه، وأطال القيام في صلاته حتى جعلوا يخرُّون, وإطالته صلاة الكسوف يدل على عظيم الفزع من هذا الحدث, وشديد التعظيم لأمر الله مع أنه هو صلَّى الله عليه وسلم من أمر بتخفيف الصلاة فيدل على أن الأمر جلل.
عباد الله: هذه آيات الله من زلازل وبراكين, وأعاصير وفيضانات, وخسوف وكسوف, وقوارع من السماء, وغَرَقٍ وحَرَقٍ, تتَّابع مذَّكِرةً ومنذرةً, يستعتبنا الله تعالى بها, ويستبطئ الخشوع من قلوب طالت عن الحق غفلتها, فأين أولوا العقول والألباب ليذكَّرُوا, ولئلا يكون حالهم كحال من حذَّر الله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف:105].

بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنَّة, ونفعني وإيَّاكم ....
بلال بن عبد الصابر قديري - مسجد الغبيشي بجدة - 29/1/1431هـ

 


هَدْيُهُ - صلى الله عليه وسلم - في الكسوف والاستسقاء
د. أحمد بن عثمان المزيد
 
5- هَدْيُهُ - صلى الله عليه وسلم - في الْكُسُوفِ[1]
1- لما كَسَفَتِ الشَّمْسُ خَرَجَ إلى المسجد مُسرِعًا فَزِعًا يجرُّ رداءَه, فتقدَّم وصلَّى ركعتين, قرأ في الأولى بالفاتحةِ وسورةٍ طويلةٍ, وجَهَرَ بالقراءةِ، ثم رَكَعَ فأطالَ الرُّكُوعَ, ثم رَفَعَ فأطالَ القيامَ, وهو دون القيامِ الأولِ, وقال لما رَفَعَ رأسه من الركوع: ((سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ, رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ)) ثم أَخَذَ في القراءةِ ثُمَّ رَكَعَ فأطالَ الركوعَ, وهو دون الركوعِ الأولِ, ثم رَفَعَ رأسه مِنَ الركوعِ، ثم سَجَدَ سجدةً طويلةً فأطالَ السجودَ, ثم فعلَ في الركعةِ الأُخْرَى مِثْلَ ما فَعَلَ في الركعةِ الأولى, فكان في كُلِّ ركعةٍ ركوعانِ وسجودانِ, ثم انصرفَ فَخَطبَ بهم خُطْبَةً بَلِيغَةً.
2- وَأَمَرَ في الكسوفِ بِذِكْرِ اللهِ والصلاةِ والدعاءِ والاستغفارِ والصدقةِ والعِتَاقَةِ.

6- هَدْيُهُ - صلى الله عليه وسلم - في الاستِسْقَاءِ[2]

1- كان يَسْتَسْقِي عَلَى المنبر في أثناءِ الخطبةِ, وكانَ يستسقي في غيرِ الجُمُعَةِ, واستسقى وهو جالسٌ في المسجدِ ورَفَعَ يَدَيْهِ وَدَعَا اللهَ عَزَّ وَجَلَّ.
2- وَحُفِطَ مِنْ دُعَائِهِ في الاستسقاءِ: ((اللَّهُمَّ اسْقِ عِبَادَكَ وبَهَائِمَكَ وانْشُر رَحْمَتَكَ وَأَحْي بَلَدَكَ المَيَّتَ)) [د]، ((اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا[3] مَرِيئًا[4] مَريعًا[5] نَافعًا غَيْرَ ضَارٍ, عَاجلًا غَيْرَ آجِلٍ)) [د].
3- وكانَ إذَا رأَى الغَيْمَ والريحَ عُرِفَ ذلك في وجهِه، فأقبلَ وأَدْبَرَ, فإذا أَمْطَرَت سُرِّيَ عنه.
4- وكان إذا رأى المطر قال: ((اللَّهُمَّ صَيِّبًا نافعًا)) [ق]، ويَحْسِرُ ثَوْبَه حتى يُصِيبَه مِنَ المطرِ، فسُئِل عن ذلك: فقال: ((لأنَّهُ حَديثُ عَهْدٍ بِرَبِّه)) [م].
5- ولَمَّا كَثُرَ المطر سألوه الاستصحاء, فاستصحى لهم, وقال: ((اللَّهُمَّ حَوَالَينَا وَلَا عَلَيْنَا, اللَّهُمَّ عَلَى الظّرابِ[6]، والآكَامِ[7]، والجِبَالِ, وبُطونِ الأَوْدِيةِ, وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ)) [ق].

-----------------

[1]  زاد المعاد (1/433).
[2]   زاد المعاد (1/439).
[3]   مغيثًا: الغوث: العون والإنقاذ.
[4]   مريئًا: هنيئًا محمود العواقب.
[5]   مريعًا: خصبًا غزيرًا.
[6]   الظراب: هي الروابي الصغار, مفردها: ظِرب.
[7]   الآكام: مفردها أكمة, وهي الهضبة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة